منتديات كاس العالم



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات كاس العالم

منتديات كاس العالم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    بائع الطين

    yousif
    yousif
    المدير العام


    الاعلام : 9

    الجنس : ذكر عدد المشاركات : 255
    تاريخ التسجيل : 15/03/2010
    العمر : 25
    الموقع : kuwait

    GMT + 12 Hours بائع الطين

    مُساهمة من طرف yousif الجمعة يونيو 04, 2010 3:53 am

    -1-


    وصلت إلى البيت في الساعة العاشرة ليلاً،عائداً من العمل الذي من المفروض

    أن ينتهي في الساعة السادسة مساءً،إلا أن بُعد المعمل عن مكان سكني،وجشع
    صاحب

    المعمل الذي بوده أن يُبقي العمال في المعمل ليلاً نهاراً،وبأجر زهيد،لا
    يسمن

    ولا يُغني من جوع،كل هذا يجعلني أتأخر حتى هذا الوقت،وأحياناً يُبقينا صاحب

    المعمل حتى الواحدة بعد منتصف الليل،إذا كان مزاجه مُتعكر من زوجته الجميلة

    التي تصغره بعشرين عاماً،والتي تزوجها من أبيها رغماً عنها

    بسبب الحاجة والفقر.

    أول شيء فكرت في فعله عندما دخلت إلى الغرفة هو اسكات معدتي التي قرصها

    الجوع طوال اليوم.

    بحثت في "النملية"هكذا يسمونها،ولا أدري لماذا! فقد كانت عبارة عن رفوف

    خشبية لها باب من المنخل الناعم كي لا تدخل الحشرات،وبنفس الوقت يسمح بدخول

    الهواء لتهوية الطعام،ولها باب ثاني من الخشب له قفل خارجي،وتستعمل قديماً

    بدلاً من الثلاجة،وعلى كل حال أنا لست بحاجة لها لأن الطعام لا يباتُ عندي

    وحجم الغرفة صغير،ولا يتسع لثلاجة،وإذا أردتم الصراحة!أنا لا أملك ثمنها.

    لم أجد شيء أكله في النملية سوى نصف رغيف من الخبز،بقيَ من الأمس وقليل من

    دبس البندورة في وعاء زجاجي،نسميه "قطرميز" أعطتني إياه أمي عندما

    جئتُ من القرية،أمي الحنونة التي لم تصدق عندما قلت لها إن دبس البندورة

    يُقدم في مطاعم المدينة بجانب البطاطا المقلية،ولكني لم أخبرها بأن دبس

    البندورة الذي تصنعه بيديها أفضل بألف مرة من دبس البندورة الذي

    يقدمونه هنا،أمي الحنونة التي حاولت مراراً أن تقنعني بالعدول عن الذهاب
    إلى

    المدينة للعمل،وأن أبقى في القرية لكي أعمل مع أبي في زراعة الأرض،أمي

    الحنونة التي كانت تبتسم عندما أتذمر إذا تأخرت في تحضير الطعام،أين أنت

    يا أمي لتري ابنك يأكل نصف رغيف شبه يابس مدهون بدبس البندورة.

    مددت دبس البندورة على نصف الرغيف و فوقه بضع نقاط من الزيت،و قليل من

    مسحوق النعنع اليابس،وكما تقول أمي(كل شيء مع الجوع طيب)والأن بعد أن

    أسكت معدتي الجائعة،اشتهيت على كأس من الشاي لأخفف من طعم دبس البندورة

    فقد بدأتُ أشعر بحرقة في معدتي بعد أن التهمت الخبز بشراهة من شدة جوعي

    وأعتقد إن كأس من الشاي سوف يُعدل مزاجي.

    تركت الماء تغلي في الأبريق جيداً،ثم وضعت الشاي الأسود على الماء،ففاحت
    رائحة

    الشاي العطرة في الغرفة،فتحت علبة السكر فتسمرت عيناي في قاعها الفارغ

    وأدركتُ حينها إني سوف أنام من دون أن أشرب الشاي.

    مع أن الحرقة اشتدت في معدتي،إلا أن التعب من العمل كان أشد على جسدي
    المنهك

    فرحت أغط في نوم عميق.

    كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل عندما أيقظتني من نومي دقات على

    الباب،ولكن من شدة تعبي،اعتقدت إني كنت أحلم،فعدت للنوم،ولكن مرة ثانية

    دُقَ الباب ولكن هذه المرة كانت الدقات أقوى مما جعلني أسستيقظ،وأذهب لأفتح

    الباب،وقد انتابني شعور بالخوف والقلق،وبدأت الأفكار تدور في رأسي،من هذا

    الذي يزعجني في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

    -2-

    ذهبت لكي أفتح الباب،وعيناي بالكاد ترى الطريق إليه،ومن غير أن أسأل

    أو أستفسر عن هوية هذا الزائر الذي قضىَ مضجعي وانتهك حرمة نومي

    امتدت يدي إلى مقبض الباب وفتحته بهدوء،وأنا أحاول بصعوبة أن

    أبقي عيناي مفتوحتان لأرى ذلك الشخص الواقف أمامي،بوجه شاحب،وجسم

    ضعيف،ولولا ثيابه الجديدة التي كان يرتديها لحسبته متسول ساقه قدره

    التعيس إلى من هو أتعس منه.

    تمعنت بوجه الزائر وقلت له:نعم! ماذا تريد?

    نظرَ بوجهي بأستغراب وقال:أنا ابن خالتك..أيمن..صديقك،ألم تعرفني

    نعم إنه ابن خالتي وصديقي أيمن!كيف لم أعرفه،ولكن معي حق أن لا أعرفه

    فقد مرت سنين طويلة منذ رأيته أخر مرة،عندما سافر إلى اوروبا الشرقية

    لكي يدرس الطب،ولم يعد بعد أنتهاء الدراسة،بل فضل البقاء هناك لكي يعمل

    بالتجارة،ولكن ما الذي غيره إلى هذه الدرجة فقد كان ممتلئ الجسم،ذو وجه

    منير وجميل.

    أخذته بالأحضان وقلت له:أرجوك لا تؤاخذني فأنا لم أعرفك من شدة النعاس

    تفضل بالدخول..البيت بيتك.

    أبعدت ثيابي المرمية على الأريكة ليتمكن من الجلوس عليها،ويا ليتني لم

    أبعد عنها الثياب،فقد بانت على حقيقتها،بالية،مهترئة وقد خرج القش

    المحشو بداخلها إلى الخارج.

    جلس أيمن وهو يبتسم،ولكن ابتسامته كانت صفراء،تكشف عن وجه مهموم و خائف

    فسألته:ما بالك? لماذا كل هذا الشحوب على وجهك?

    نظرَ إليَ بعينين خائفتين وقد اغرورقت بالدموع،وقال:أنا أسف جداً على
    إزعاجك

    في هذا الوقت المتأخر من الليل،فقاطعته قائلاً:لا عليك يا رجل،ما هذا
    الكلام

    الذي تقوله! تستطيع أن تأتي في أي وقت تشاء،وتابع حديثه بصوت متقطع

    يخالطه البكاء..صدقاً أنا أسف ولكن لم يكن أمامي سوى بابك أدق عليه

    فقد كنت في القرية،وأخذت عنوانك من أمك وهي تسلم عليك كثيراً،وقد أرسلتني

    لكي أختبئ عندك حتى يحين موعد سفري إلى اوروبا.

    قاطعت كلامه مستغرباً! تختبئ عندي! ولماذا تختبئ?

    تابع حديثه ببطئ وهو يمسح الدموع من عينيه..لقد جئت من اوروبا منذ اسبوع

    في إجازة لكي أزور أهلي،ولكني لم أهنئ بهذه الإجازة،فقد قتل ابن عمي جاره

    عن طريق الخطأ،وسلم نفسه للشرطة،ولكن أهل القتيل يريدون قتل أي شخص

    يرونه أمامهم،والبارحة كنت مختبئ عند أمك في القرية،ولكنها خافت أن يراني

    أحداً عندكم،فيخبرهم عني،فنصحتني أن أختبئ عندك في المدينة حتى يحين موعد
    سفري

    ولم أستطيع مغادرة القرية إلا بعد منتصف الليل كي لا أصادف أحداً من أهل

    القتيل،ومرة ثانية أكرر أسفي وأعدك بأنني لن أزعجك أكثر من ثلاثة أيام.

    هونت عليه قائلاً:ما هذا الكلام يا رجل! إذا لا يتسع لك المكان أضعك على

    رأسي،صدر البيت لك والعتبة لي،وطلبت منه أن يبدل ثيابه،وأعطيته ثياب

    للنوم من عندي،وبصعوبة بالغة أقنعته بالنوم على السرير و نمت أنا على

    الأريكة الممزقة التي كانت تتحرك تحتي كموج البحر.

    عندما استيقظت،لم تكن الشمس في مكانها الذي عهدته كل صباح،فقد قطعت مسافات

    بعيدة عن نافذتي،والساعة قد قاربت من العاشرة صباحاً،وطبعاً لن أترك ضيفي

    لوحده وأذهب للعمل وعلى كل حال تأخرت كثيراً وسوف يطردني صاحب المعمل.

    خرجت لشراء الفطور،وعدت بسرعة قبل أن يستيقظ أيمن،وكان الفطور سهل

    التحضير،بيض مقلي وحمص ناعم،ولم أنسى أن أشتري السكر لكي أشرب

    الشاي مع الضيف.

    أيقظت أيمن بلطف،ودعوته لتناول الفطور فقد كان جائعاً مثلي.

    جلسنا نشرب الشاي بعد الفطور ونحن نتحدث ونسترجع الماضي،وأيام الطفولة

    والمدرسة،وتلال القرية،والسباحة في مياه السواقي،والسباق في بيادر

    القمح،وحصاني الخشبي الذي انكسر،كانت أيام جميلة لم نشعر وقتها بهموم
    الحياة.

    كان أيمن يجول بنظره في أرجاء الغرفة التي توحي بالفقر والحاجة،ونظرَ إليَ

    وقال:لماذا لا تأتي معي إلى اوروبا وتعمل معي بالتجارة?.

    ضحكت بصوت عالي وقلت له:ليس معي نقود لأشتري طعام،فكيف أسافر إلى اوروبا

    وأعمل بالتجارة.

    فقال لي:لا عليك أنا سوف أدفع لك كل التكاليف،وعندما تعمل وتربح

    تعيد لي النقود،ويجب أن تفكر بسرعة،قبل أن يحين موعد سفري،فإذا وافقت

    فسوف تسافر معي بعد ثلاثة أيام.

    لم أفكر كثيراً،فما أعانيه في عملي،وحياتي يجعلني أوافق بسرعة على عرضه.

    وفعلاً لم أضيع الوقت،ذهبت معه إلى السفارة وحصلت على تصريح السفر،وأشترى

    لي بطاقة سفر بالطائرة.

    ذهبت لكي اودع صاحب المعمل وآخذ باقي أجري منه،ولكن كما توقعت،فقد

    طردني ولم يعطيني شيء،وقال لي:اذهب درب الذي يأخذك لا يرجعك،تركته وذهبت

    إلى القرية لأودع أمي و أبي،ويا ليتني ما ذهبت.

    -3-

    وصلت إلى القرية بعد الظهر،وكان السكون يخيم على أرجاء القرية،إلا من بعض

    الباعة المتجولين الذين يأتون من المدينة ليبيعوا بضائعهم في القرى التي

    يصعب على سكانها الوصول إلى المدينة،وقبل أن أذهب إلى بيتنا،مررت إلى بيت

    خالتي لأطمئنهم على أيمن،ولكني لم أجد أحداً في البيت.

    وصلت إلى بيتنا،وكان باب(التوتة)الكبير مفتوحاً كالعادة..وكانوا يسمونه

    بباب التوتة لأنه مصنوع من صفائح التوتياء،وكان كبيراً بحيث يدخل منه البغل

    وهو يجر العربة،عندما يعود من الحقل،دخلت إلى ساحة البيت التي تتوسطها

    شجرة التوت الهرمة مسدلةً ما بقي منها من أغصان إلى الأرض،شعرت للحظة

    وكأنها تناديني لأتسلق أغصانها كما كنت أفعل وأنا طفل صغير،لأركب على
    الأرجوحة

    التي ربطتها أمي على جذعها القوي،لأتفحص أعشاش عصافير الدوري،وأساعد هرتي

    الصغيرة على النزول عندما تعلق في أغصانها العالية،وبالقرب منها كان البئر

    العميق بحبله الطويل ودلوه الحديدي يناديني لأشرب من ماءه العذب،وبالطرف

    الأخر من الساحة كانت أغصان الكرم اليابسة تحترق في الموقد تحت قدر من محشي

    الباذنجان،ورائحة الطعام تفوح بالمكان.

    كانت أمي تقف بجانب الموقد لتضع الحطب على النار لتبقى مشتعلة،وعندما رأتني

    أرتسمت على وجهها الجميل المنقط بشحار الموقد،إبتسامتها الحنونة التي
    دائماً

    كانت تقابلني بها،وسارعت إلى أحضانها وكأني طفل صغير عاد إلى أمه بعد أول
    يوم

    له في المدرسة.

    جلست مع أمي وأبي نتناول الطعام،وأنا أكلمهم عن المدينة،وماذا حصل معي

    وكيف جائني أيمن في الليل،ولكني لم أفتح موضوع السفر مباشرة،إنتطرت حتى
    جاءت

    أمي بالشاي المغلي على نار الموقد.

    كنت كلما حاولت أن أفتح موضوع السفر تصيبني غصة في حلقي،تمنعني من النطق

    لأني أعرف أمي جيداً،وأعرف بأنها لن تتقبل هذا الموضوع،فهي وبصعوبة بالغة

    وافقت على سفري إلى المدينة،فكيف توافق بأن أسافر إلى مكان بعيد

    مثل اوروبا،فحاولت أن أدخل بالموضوع بشكل تدريجي،أخبرتها بأن أيمن عرض عليَ

    السفر معه،وأنا بحاجة أن أجمع المال لأشتري بيت بالمدينة،ولكن ما أن بدأت

    بالكلام حتى بدأت تذرف الدموع التي كانت تحرق قلبي،ورددت نفس العبارات التي


    كانت تنصحني بها في الماضي،أن أبقى في القرية،وأعمل مع أبي في زراعة الأرض.

    كان أبي يجلس في زاويته المعهودة في طرف الغرفة،وهو يحرك مفتاح المذياع
    بحثاً

    عن محطات،ولم يكن ينبس بكلمة،ولكني كنت أعلم إنه كان يتابعنا بكل كلمة

    نقولها،نظرَ إليَ بعينين واثقتين وقال:اذهب يا بني وسافر اينما تريد

    لا تبقى كما بقيت أنا ولم أفعل شيء بحياتي سوى زراعة الأرض.

    وكانت أمي تشد وأبي يرخي وطال النقاش حتى قاربت الساعة من السادسة مساءً

    وكان موعد الطائرة في الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل،وأخيراً
    وبمساعدة

    أبي الذي وقف بجانبي اقتنعت أمي،بشرط أن أعود بعد ثلاثة شهور.

    جهزت لي أمي بعض الاشياء كي آخذها معي،وأكثرها كان من الطعام الذي لا يفسد

    مثل:الشنكليش،والمكدوس،والزعتر،وخبز التنور الذي تصنعه في تنور

    البيت،فيخرج محمراً برائحة الخبز الحقيقي الذي يسيل اللعاب لرؤياه.

    أخرج أبي بعض النقود التي كان يدخرها إلى يوم أسود،وطلب مني أن أضعها

    في جيبي،ولكني رفضت بشدة،وأصرَ أن آخذها منه،وبصعوبة بالغة أقنعته أني

    لست بحاجة،وأن أيمن سوف يدفع كل المصاريف،مع أن جيبي لم يعرف شكل المال منذ

    وقت طويل.

    خرجنا إلى ساحة المنزل،وقد حثثت أمي على الأسراع لكي ألحق بالحافلة الأخيرة

    التي تغادر القرية إلى المدينة،وحانت لحظة الوداع التي أكرهها جداً،وهي

    بالنسبة لي أصعب من السفر بكثير،دموع،فراق،ألم،حرقة في القلب.

    عانقت أمي لأودعها،وقد أخفت دموعها للحظات ريثما أغادر المنزل مع أبي الذي

    سوف يودعني عندما أركب الحافلة،وعندما اقتربت من باب التوتة،بدأ أزيز

    الرصاص في الخارج،وكأن معركة قد أشتعلت،فحاولت الخروج لأرى ماذا يحدث،ولكن

    أمي منعتني،وأدخلتني إلى الغرفة مع أبي.

    لم يدم إطلاق الرصاص طويلاً،فسرعان ما سمع صوت سيارات الشرطة قادمة من بعيد

    مما شجع أمي أن تدعنا نخرج،ونتجه إلى ساحة القرية لنرى ماذا حدث.

    علمنا من أحد الجيران أن أهل القتيل قاموا بإطلاق الرصاص على أقرباء

    أيمن،وعندما سمعوا صوت سيارات الشرطة لاذوا بالفرار.

    عدنا إلى البيت،ومرة ثانية،ودعت أمي واتجهنا إلى الحافلة مسرعين،ولكن هذه

    المرة كانت الحافلة قد غادرت،وتركتني أبحث عن البديل.

    لم يكن أمامي سوى عربة أبي التي يجرها البغل لكي توصلني إلى الطريق الذي

    تمر منه السيارات المتجهة إلى المدينة،وكان يبعد عن القرية بضع كيلومترات.

    أخرج أبي البغل من الأسطبل،وثبته أمام العربة،ثم انطلقنا عبر الأراضي

    الزراعية مختصرين الطريق.

    كانت الساعة قد قاربت على التاسعة مساءً،والظلام قد أسدل

    بستاره على الأجواء.

    للحظات نسيت نفسي،وشعرت بحقول القرية تودعني بموكب موسيقي مهيب،كانت أنفاس

    البغل العجوز تصل إلى مسامعي وهو يجر العربة متثاقلاً،وكأنه يعزف

    بالبوق،والجنادب تقفز أمام أقدامه وكأنها أطفال تتراكض أمام الموكب بأنتظار


    أن يرمى إليها بالحلوى،ونقيق الضفادع في السواقي بمحاذاة الطريق يملأ الجو

    صخباً،وكأن فرقة موسيقية تعزف على جانبي الطريق،وأبي كان المايسترو الذي

    يقود الموكب الموسيقي،فكان يُحرك الحبل الذي يوجه به البغل بين الحين
    والأخر،وكأنه

    يعطي الأشارات للموسيقيين،والنجوم كانت تشع بالسماء الصافية،لتكمل روعة

    المشهد الجميل.

    وصلنا إلى الطريق الرئيسي،وكنت محظوطاً فقد توقفت لي سيارة عابرة وأقلتني

    معها إلى المدينة.

    كانت علامات القلق واضحة على وجه أيمن،وكان على لسانه أسئلة كثيرة،يريد أن

    يعرف لها جواباً،ولكني طلبت منه أن يُسرع لكي نلحق بالطائرة،وسوف

    أخبره بكل شيء على الطريق.

    كانت المرة الأولى التي أرى فيها مطاراً،وطبعاً أول مرة أركبُ فيها
    بالطائرة،مما

    جعلني أقلق بعض الشيء.

    كانت الطائرة مكتظة بالركاب،وهذا ما هدئ من روعي وخوفي،وكان من بين الركاب

    نساء وأطفال يضحكون ويمرحون،وكان أيمن يجلس بجانبي،وقد أرخى برأسه على

    جانب المقعد،ولم أدري أذا كان نائم أو يخفي وجهه المهموم عني.

    انقضت ثلاث ساعات قبل أن تهبط الطائرة في المطار،نزلنا من الطائرة،واتجهنا

    إلى مبنى المطار،ومن ثم إلى شرطة الجوازات لوضع تأشيرة الدخول.

    كنت أمشي وراء أيمن،وكأني طفل صغير يلحق بأبيه،وصلنا إلى غرف صغيرة من

    الزجاج يجلس بداخل كل واحدة شرطي،وكان للغرفة نافذة تسمح بأدخال الجواز

    فقط،أعطى أيمن جوازه للشرطي،فوضع عليه الختم وأعاده إليه،ثم غادر أيمن إلى

    الجانب الثاني من المبنى،ولم أعد أراه.

    جاء دوري،فأعطيت الجواز للشرطي الذي فتحه،وهو يتمعن تارة بالصورة التي

    على الجواز وتارة أخرى بوجهي،مما جعلني أشعر بالإرتباك،ثم خرج من الغرفة

    الزجاجية،وأشار لي بيده أن ألحق به،إلتفت يميناً ويساراً لعل أحد يشرح لي

    ماذا يريد مني الشرطي،ولكني لم أجد جواباً أو تعليقاً من أحد،كان يجب أن
    أعطي

    جوازي قبل أيمن،كيف فاته هذا الموضوع،لحقت بالشرطي إلى غرفة جانبية كانت

    مبنية من الأسمنت،وفيها كرسي ومنضدة صغيرة.

    نظرَ إليَ الشرطي،وأشار لي بأن أخلع ثيابي،فشعرت بشيء من الخوف
    والقلق،فحاولت

    إفهامه،بأني لا أفهم ماذا يريد،ولكنه مرة ثانية أشار بأن أخلع ثيابي،وبدأ

    يصرخ ويدمدم بكلمات لم أفهم منها شيئاً،ثم خرج من الغرفة بعد أن أشار لي

    بيده أن أبقى مكاني،وأنه سوف يعود بسرعة.

    -4-


    لم يطل غياب الشرطي طويلاً،فقد عاد ومعه شاب أسمر،ذو ملامح

    شرقية،عرفت من خلالها بأنه عربي.

    تحدث الشرطي مع الشاب بضع كلمات بلغة لم أفهمها،ثم نظرَ الشاب نحوي وقال:

    هذا الشرطي يريد منك أن تخلع ثيابك كي يفتشك.

    فقلت:ولماذا ?! أنا لوحدي..أنا فقط..يريد أن يفتشني،وبهذه الطريقة المهينة.

    فرد قائلاً:إنه يريد إخافتك حتى تعطيه بعض النقود،وأنصحك أن تعطيه

    بدلاً من أن يطبق عليك قوانينه الدنيئة.

    للحظات اعتقدت بأن الشاب يخدعني،وربما يكون متعاون مع الشرطي ضدي،فحاولت

    المراوغة،وقلت:ولكني لا أملك نقوداً،فأنا قادم مع صديقي،وهو قد خرج قبلي.

    ابتسم الشاب وقال:لا عليك أنا سوف اعطيه،وأخرج من جيبه عشرة دولارات

    ودسها في جيب الشرطي،عندها ابتسم الشرطي،وأعطاني جواز سفري وعليه

    تأشيرة الدخول،وأشارَ لي بيده أن أذهب.

    شكرت الشاب كثيراً،وطلبت منه أن يرافقني إلى خارج المطار،لكي أطلب من أيمن

    نقوداً،أعيدها له بدلاً من النقود التي دفعها للشرطي،ولكنه رفض وغادر من

    أمامي بسرعة،حتى لم يعطيني الفرصة لأسأله عن اسمه.

    خرجت من مبنى المطار،فوجدت أيمن ينتظرني وقد بدت على وجهه علامات الخجل

    والأسف،فبادرني بالقول:أرجوك لا تؤاخذني فقد سهوت عنك،لأن تفكيري كله عند

    أهلي في القرية،ولم أشعر وأنا أخرج من دونك.

    فقلت له:لا عليك،أنا أقدر ظرفك،وقصصت عليه ما جرى معي في المطار،وكيف

    ساعدني الشاب العربي.

    كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل،استقلينا سيارة

    أجرة،انطلقت بنا وسط شوارع المدينة متجهين إلى بيت أيمن.

    كنت أنظر من نافذة السيارة إلى المباني المرتفعة والشوارع الخالية من
    المارة

    وكأنني أشاهد فيلم سينمائي لأول مرة،ومن شدة تعبي،كنت لا أشعر بجسدي
    معي،كنت

    أشعر بأنني أطير،ولا أفكر إلا بسرير أرتمي عليه ولا أستيقظ قبل ثلاثة أيام.

    وصلنا إلى الحي الذي يسكن فيه أيمن،وكان في أطراف المدينة،في منطقة أكثرُ

    سكانها من الفجر،ومع أن الوقت كان متأخراً،إلا أن بعض منهم كان يجلس في

    الشارع ينتظر غنيمة يغتنمها من فتاة عائدة من مرقص،أو من شاب سكران

    أو من مسافر يحمل حقائبه الكثيرة مثلنا.

    بعد أن نزلنا من السيارة،جاء أثنين من الغجر وعرضوا على أيمن المساعدة

    في حمل الحقائب،وطبعاً رفض،وحذرني أن أنتبه منهم جيداً.

    حملنا الحقائب،ودخلنا المبنى الذي يقيم فيه أيمن،وعندما حاول فتح باب

    المصعد لنركب فيه،أصبنا بالأحباط،فقد كان المصعد معطلاً،فقلت له لا عليك

    هيا لنصعد على الدرج،ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء،ونظرَ إلى الأعلى،وكأنه

    ينظر إلى السماء،وقال:البيت في الطابق العاشر.

    عندما سمعت بالطابق العاشر،خارت قواي وشعرت بدوار في رأسي،ولكن بشيء

    من العزيمة والصمود صعدنا على الدرج،وأنا أفكر بالسرير المريح الذي

    ينتظرني،وكنا نرتاح كلما صعدنا من طابق لأخر،حتى وصلنا في النهاية

    إلى الطابق العاشر،وقد تقطعت أنفاسي من التعب.

    أدخل أيمن يده بجيبه ليخرج مفتاح الباب،ولكن يده كانت تخرج فارغة،وكان

    يعاود أدخالها وأخراجها في جيوبه،وهو يتصبب عرقاً،ولكن عبثاً،فقلت له أن

    يبحث في حقائبه،ربما وضع فيها المفتاح من غير أن يشعر،وفعلاً فتح كل حقائبه

    وبعثر محتوياتها على الأرض ولكن لا جدوى،أوقف البحث،وأطرق رأسه نحو الأرض
    ثم

    نفخ نفخة،أحسست بقوتها تلامس جبيني،وقال:لقد نسيت المفتاح في القرية،وأعتقد

    أننا سنبقى هنا حتى الصباح،ريثما تعود صديقتي روكسانا لتفتح لنا الباب،فهي

    الوحيدة التي تحمل مفتاح أخر،وهي الأن في مدينة أخرى،و سوف تصل في
    الصباح،كما

    تواعدنا قبل أن أسافر.

    لم تكن ليلة سوداء من الظلام فقط،بل كانت ليلة سوداء من العذاب،في القرية

    وعلى الطريق،وفي المطار،والمصعد المعطل،والمفتاح المفقود.

    استلقيت على الأرض بجانب باب البيت،و وضعت حقيبتي تحت رأسي،واغمضت عيوني

    محاولاً النوم،ولكني لم أستطيع من قساوة الأرض ورطوبتها،ومع أن فصل الصيف
    كان

    في نهايته إلا أن الجو في اوروبا كان بارداً بعض الشيء،فكنت أتقلب مرة على

    الجانب الأيمن،ومرة على الجانب الأيسر،لأخفف عن جسدي قساوة الارض ورطوبتها.

    -5-


    شيئاً فشيئاً بدأ نور الشمس يتسرب إلى داخل المبنى معلناً بداية نهار جديد

    وبين النوم واليقظة،والحلم والعلم،رأيت إمراءة عجوز ترتدي ثوب طويل أخضر

    عليه نقط بيضاء،شعرها قصير أبيض،تناهز السبعين من العمر،خرجت من الباب

    المقابل لبيت أيمن.نظرت إلينا وقد بدت علامات الدهشة والأستغراب على

    وجهها،اقتربت منا،وهي تتكلم بلغتها التي لا افهم منها شيئاً،وبدأت تحدث

    أيمن،وكانت تتكلم بصوت عالي ظناً منها بأننا مثلها،سمعنا ضعيف.

    طلب أيمن منها الدخول إلى بيتها ليستعمل الحمام،فسمحت له بالدخول،وتركني

    معها تكلمني وتناقشني،وأنا كنت أهز برأسي دائماً،وأبتسم عندما تبتسم،وأحزن

    عندما تتغير معالم وجهها،وأرفع حاجبي عندما يجب ان أندهش،كي لا أشعرها

    بالأحراج،وعندما عاد أيمن،لا أدري ماذا قالت له حتى أضحكته رغم العذاب

    الذي نحن فيه.سألت أيمن عن سبب ضحكه،فقال:إنها تمتدحك كثيراً وتقول إنك
    متفهم

    لكل الأمور وأسعدها كثيراً الكلام معك،وأخذت أنا أيضاً أضحك بالرغم من

    التعاسة التي أنا فيها،وكانت خيبة العجوز كبيرة عندما علمت بسبب ضحكنا.

    اقتربت مني العجوز ومدت يدها وقالت ماريا،فقال لي أيمن:العمة ماريا تعرفك

    بنفسها،فمدت يدي مصافحاً وقلت لها:فارس أنا فارس،صديق أيمن،وكان أيمن يترجم

    الحديث بيننا،الذي طال كثيراً.

    ذهبت العمة ماريا إلى السوق،وقالت وهي تنزل الدرج:عندما أعود سوف تدخلون

    إلى بيتي ريثما تعود روكسانا.

    ولكني لا أعتقد أن هذا سيحصل،لأن العمة ماريا سوف تمضي نصف النهار

    عندما تعود من السوق لتصعد الدرج إلى الطابق العاشر.

    لم يطول انتظارنا كثيراً،حتى سمعنا أصوات أقدام تصعد الدرج،كانت فتاة في

    الخامسة والعشرين من عمرها،نحيلة الجسد،ممسوحة الصدر،شعرها أصفر قصير تربطه

    إلى الوراء،تلبس بنطال أبيض،وقميص أصفر،وتنتعل حذاء رياضي،خلت من معالمها

    الأنوثة،لا تتميز عن الذكور إلا بصوتها النسائي.

    اقتربت من أيمن وعانقته بشوق ولهفة،وتبادلوا القبلات الحارة حتى أني خجلت

    من النظر إليهم،ورحت أسعل لأذكرهم بوجودي.

    نظرَ أيمن نحوي وقال: لا تهتم يا صديقي،هذه الأمور عادية هنا،أنت في أوروبا

    يا رجل،ثم قدمني إلى صديقته قائلاً: هذا فارس و هذه روكسانا،فمدت يدها،ولكن

    ليس لتصافحني،فقد رفعتها حتى اقتربت من وجهي،فقال أيمن:العادة هنا عندما

    يصافح الرجل إمراءة،يقبل يدها.فقلت له أنا لا أُقبل سوى يد أمي،ثم مددت يدي

    وصافحتها كما أصافح الرجال،فشعرت بأنها تضايقت من ذلك.

    فتحت روكسانا باب البيت،ثم دخلنا إلى غرفة صغيرة،وضع فيها كرسي ومنضدة

    وبجانبهما أريكة صغيرة،وتلفاز صغير بحجم الراديو الذي يستمع إليه أبي.

    جلس أيمن وركسانا ،وأخذوا يتهامسون ويتحابون،وكأنهم لا يروني.

    انتظرت قليلاً حتى يُدخلني أيمن إلى غرفتي لكي أنام،ولكن أيمن لم يهتم
    بي،كان شغله

    الشاغل ملاطفة روكسانا،فقاطعت خلوتهم قائلاً:أريد أن أدخل غرفتي لكي أرتاح

    وترتاحون أنتم أيضاً،ولكن أيمن راح يضحك وكأنني دغدغته بكلامي،ثم قال لي
    وهو

    يحاول أيقاف نفسه عن الضحك:هذا البيت يتكون من غرفة واحدة فقط.فقلت له:

    حسناً دعني أدخل إلى الغرفة لكي أنام فأنا مرهق.ولكنه عاد للضحك مرة ثانية

    وهو يقول:هذه هي الغرفة،نحن نجلس فيها،والأبواب التي تراها هي أبواب المطبخ


    والحمام.أصبت بصدمة عندما سمعت كلامه،فهل يُعقل أن كل هذا العذاب والأنتظار

    والصعود للطابق العاشر وفي النهاية،البيت غرفة بحجم مطبخ أمي في القرية.

    استلقيت على الاريكة،وأرخيت جسدي المتعب،وسلمت أمري إلى الله.

    عندما استيقظت كانت الساعة الثالثة بعد العصر،كنت أشعر بالجوع والعطش

    و كانت عظامي تؤلمني من النوم على باب البيت،ورقبتي قد تشنجت من النوم من

    دون وسادة،نظرت حولي فلم أجد أحداً في الغرفة،فرحت أنادي على أيمن بصوت

    منخفض،فلم يجيب أحد.

    دخلت إلى المطبخ الذي لا يتعدى طوله مترين وعرضه متر واحد،وقد وضع بداخله

    ثلاجة صفيرة جداً،ومغسلة ممتلئة بالصحون التي لم تُغسل منذ وقت طويل،وبعض

    الرفوف بجانب المغسلة.فتحت الصنبور كي أشرب،فسال منه ماء بني اللون ممزوج

    بالتراب،لا يصلح للشرب،ثم فتحت الثلاجة لعلي أجد فيها بعض الطعام،ولكنها

    كانت خاوية مثل النملية التي تركتها في غرفتي.

    جلست على الأريكة أنتظر أيمن،ومرَ وقت طويل،وطال إنتظاري،واشتد جوعي،وجف

    حلقي،وبدأت الأفكار والظنون تدور في رأسي،أين ذهب أيمن? ماذا أفعل الأن

    وحيداً في هذه الغرفة? أسئلة كثيرة لم أجد لها جواب

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 12, 2024 8:36 pm